مصر والسودان كأس الأمم الأفريقية (1959) ..
كواليس وأسرار ونوادر
مباريات كرة القدم ليست عبارة عن أهداف ونتائج وإحصائيات فقط كما يعتقد البعض، بل تحتوى جنباتها أيضا على أحداث مثيرة نادرا ما يتم ذكرها أو اكتشافها في حينها.. وفى هذا التقرير التاريخي على كورابيديا سيتم استعراض ولأول مرة كواليس شيقة ومثيرة ونادرة قبل وأثناء وبعد مباراة، كل ما يعرف عنها هو مناسبتها ونتيجتها وبعد التفاصيل البسيطة عنها.. إنها مباراة مصر والسودان في ختام بطولة (كأس الأمم الأفريقية 1959) .. تابعونا
كيف بدأت فصول قصة مباراة مصر والسودان
بدأت فصول قصتنا المثيرة بتأهل منتخب مصر للمباراة الحاسمة لبطولة كأس الأمم الأفريقية الثانية، والتي استضافتها القاهرة في الفترة من 22 إلى 29 مايو من العام (1959)، وأقيمت مبارياتها على ملعب النادي الأهلي، وقد ضمت البطولة بالإضافة إلى مصر منتخبي السودان وإثيوبيا والتي كانت تسمى وقتها بالحبشة مثلما كان الحال في البطولة الأولي.
طالع أيضا علي كورابيديا ..
أقيمت البطولة بنظام الدوري من دور واحد بين الثلاث منتخبات . حيث لعبت مصر المباراة الأولى ضد إثيوبيا وقدمت أداء ولا أروع واستطاعت حسمها نتيجتها (4-0) .سجل منها الجنرال محمود الجوهري (3 أهداف .. هاتريك ) بالإضافة لهدف سجله ميمي الشربيني .. وبعدها تقابل المنتخب السوداني مع نظيره الإثيوبي واستطاع الفوز عليه بنتيجة (2-0) ..
لتصبح مباراة مصر والسودان الأخيرة، هي مباراة الحسم والتتويج، وتحديد الفائز باللقب الأفريقي الثاني، ولفارق الأهداف كان الفوز أو التعادل يكفى منتخب مصر لتحقيق اللقب، بينما لم يكن أمام منتخب السودان القوي آنذاك سوى الفوز لتحقيق اللقب .. ليصبح الجميع منتظرا على أحر من الجمر مواجهة كروية حماسية تجمع بين أقوى منتخبين في القارة الأفريقية وقتها .
رسالة المشير التي جعلت المباراة حياة أو موت !!
كل الأمور كانت تسير على ما يرام قبل المباراة، والكل كان منتظر مواجهة حماسية وممتعة بين المنتخبين المصري والسوداني فيها فائز وخاسر .. ولكن ما حدث مساء الخميس ليلة مباراة مصر والسودان جعل الأمور تنقلب رأسا على عقب وجعل المباراة تكتسب حساسية عالية وتحديدا من ناحية الجانب المصري.
المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة
حيث دخل “على شفيق” سكرتير المشير عبد الحكيم عامر وقتها ، معسكر المنتخب المصري في جامعة “عين شمس” في زيارة مفاجئة ،وطلب جمع كل أعضاء الفريق، وأبلغهم أنه حضر توا من السفارة السودانية ، حيث كان هناك حفل استقبال حضره المشير، وكان جرس الهاتف في الحفل يرن كل 10 دقائق من السودان، مبلغا السفير السوداني بأن أقواس النصر قد أقيمت في الخرطوم وأم درمان، وأن الاستعدادات والزينات جارية على قدم وساق لترتيبات الاحتفال بالفريق السوداني وهو عائد بكاس الدورة الأفريقية ، في إشارة إلى ثقة المنتخب السوداني بالفوز على منتخب مصر والعودة للسودان بالكأس..
وأكمل على شفيق ان المشير في حالة من التوتر والشد العصبي الكبير، وان الموقف حساس، وقد طلب منه المشير أن يبلغهم رسالة بأنه غير مستعد لتحمل خسارة مصر لهذه المباراة بأي شكل ، وتحت أي ظروف !! وأشار على شفيق فجأة إلى عصام بهيج والذى كان وقتها نقيب في الجيش المصري وقال:
– أنت بالذات سأرميك في صحراء سيناء حيث الرمل تحتك والسماء فوقك .. وهناك ليس أمامك إلا ربك تدعوه .. وسأله عصام وهو يحاول تهدئة أعصابه من هول الصدمة :
– هذا في حال الهزيمة .. وماذا عن الفوز ! .. فرد على شفيق باسما: كلكم تعرفون المشير .. وتعرفون سخاءه
لتتحول المباراة بعد هذا الاجتماع، بالنسبة للاعبي منتخب مصر بصفة عامة ولعصام بهيج بصفة خاصة إلى حياة أو موت..
وبكل أمانة لم يكن هذا الاجتماع موفقا بالمرة وافتقد لأى خبرة إدارية في هذه المواقف، وكان من شأنه تحطيم أعصاب اللاعبين وزيادة الضغوط عليهم قبل هذه المباراة الهامة والتي تحولت إلى مصيرية بعد هذا الاجتماع .. وهذا رأى شخصي على أي حال ..
شكسبير يحضر إلى ملعب الأهلي قبل بداية المباراة
كان لهذا الاجتماع العاصف أثر بالغ على معنويات اللاعبين وتسبب في توتر شديد لهم داخل المعسكر بعد أن شعروا بأن مصائرهم متعلقة بهذه المباراة التي بأي حال كانت نتيجتها غير مضمونة في ظل مواجهة منتخب قوى ومدجج بالنجوم . ولكنهم في نفس الوقت تعاهدوا على بذل أقصى ما في وسعهم من أجل تحقيق اللقب ورفع اسم منتخب مصر عاليا ..
وجاءت ساعة المباراة التي أقيمت يوم الجمعة 29 مايو 1959 على ملعب الأهلي .. ووصل اللاعبون إلى ملعب التتش الذى كان ممتلئا عن آخره ، وكل منهم يحمل جملة شكسبير الشهيرة “أكون أو لا أكون” .. ووضع الفريق المصري يده على الكرة .. وقرا اللاعبون الفاتحة وتعاهدوا على الفوز من أجل إسعاد الجماهير أولا وأخيرا بعيدا عن أي أمور حدثت قبل المباراة .
تشكيل منتخب مصر
قبل أن نبدأ في وصف أحداث هذه المباراة المثيرة إليكم تشكيل منتخب والذى كان يضم فطاحل الكرة المصرية عبر تاريخها:
- عادل هيكل
- طارق سليم
- يكن حسين
- رفعت الفناجيلى
- طه إسماعيل
- ميمى الشربينى
- محمود الجوهرى
- شريف الفار
- صالح سليم
- عصام بهيج
- علاء الحامولى
• الشوط الأول سيطرة مصرية وحلم اللقب يقترب
وسط تشجيع وزئير رهيب من الجماهير المصرية .. بدأ الشوط المباراة بهجوم كاسح من منتخب مصر ،وهو ما ترجمه عصام بهيج بتسديدة لولبية حلزونية من أقصى اليسار كان مشهورا بها دوما ، سكنت شباك سمير محمد على حارس الزمالك الأسبق، معلنة عن تقدم منتخب مصر بالهدف الأول فى الدقيقة الـ12 من بداية المباراة .. لتشتعل المدرجات هتافا وصراخا ودموعا .. ليمر الوقت وينتهى الشوط الأول والفرحة تعم الجميع ..
• الشوط الثاني تأزم الموقف بشكل مفاجئ وحلم اللقب يقترب من الضياع
بدأت المباراة الحقيقية فى الشوط الثانى والذى شهد تأزم للموقف بشكل مفاجئ حيث أصیب يکن حسين وأصيب كذلك صالح سليم . . ولم يكن يسمح في هذه المباراة بأي تبديل .. فأصبح الفريق المصری نظريا يمتلك 11 لاعب فى الملعب وعمليا يلعب بتسعة لاعبين بعد أن أصبحت حركة يكن وصالح سليم شبه معدومة ، وهنا إستغل المنتخب السوداني الفرصة وشدد من هجومه على مرمي المنتخب المصرى ، لتستقبل شباك عادل هيكل هدف التعادل للسودان فى الدقيقة 65 عن طريق بوشكاش السودان كما كان يطلق عليه وقتها وثعلبها الفذ “صديق منزول” .. وبعد الهدف تسيد لاعبو السودان الموقف تماما وفرضوا سيطرتهم على مجريات المباراة ،وتوترت أعصاب اللاعبين المصريين . وصمتت هتافات الجماهير وهي تكتم انفاسها وکأن الطير على رؤسها وأخذت تعد الدقائق الثقيلة التى كانت تمر واضعة أياديها على قلوبها ..
ومع مرور الوقت اشتد ضغط الفريق السوداني ، واشتعل حماسه مع اقتراب المباراة من نهایتها، وأصبح قريبا تماما من مرمى المنتخب المصرى الذى دافع ببسالة عن مرماه رغم النقص العددى ،وبرغم ذلك كانت كل الشواهد تؤكد أن الهدف السودانى قادم محالة .. وأن حلم تحقيق اللقب للمنتخب المصري أصبح مهدد بالضياع
• قصة هدف الإنقاذ العالمي
لأنك ستتخيله ، سيشعر جسدك بقشعريرة غريبة وربما ستنتفض فرحا عزيزي القارئ ، وأنت تقرأ تفاصيل هذا الهدف، الذى أنقذ لقب من الضياع ،وأنقذ مصائر لاعبين، لم يكن يعلمها إلا الله فى حالة تسجيل المنتخب السوداني هدف كان آت لامحالة
قبل نهاية المباراة بدقيقة تحديدا فى الدقيقة 89 ومع إحتباس الأنفاس وإقتراب المنتخب السوداني من التسجيل ، إنطلق الجنرال محمود الجوهري بالكرة في هجمة عنترية من ناحية اليسار ثم قام برفعها .. وفى نفس الوقت جري عصام بهيج صاحب الهدف الأول بسرعة شديدة فى المكان الخالى بين الظهير الأيمن والظهير الثالث للمنتخب السودانى ، محاولا جعل الكرة أمامه قليلا ليكون فى الوضع الأمثل للتصويب، وفوجئ عصام من شدة حماسه ، بأنه قد سبق الكرة بحيث أصبحت خلفه قليلا، وبسرعة شديدة دار حول نفسه ليصبح ظهره ناحية المرمى السودانى .. وبدون تفكير، طار فى الهواء ووضع كل أمله وأمل المصريين في كلمة يارب وسدد كرة خلفية مزدوجة ولا أروع .. بوووووووووووم ..
لتسكن شباك سمير محمد على معلنة عن تقدم المنتخب المصري .. ووقع عصام بعدها على الأرض .. ولم يحتاج لأن ينظر خلفه ليتابع أين ذهبت الكرة ، فقد إنفجرت مدرجات ملعب النادى الأهلى صراخا وجنونا بالهدف الاسطوري الذى أنقذ المنتخب من هزيمة محققة نظرا للظروف التى شهدتها أحداث المباراة .. وجرى الجمهور داخل الملعب ومعه أفراد من الأمن من شدة الفرحة فى كل إتجاه فى إنصهار ولا أروع .. وتعطلت المباراة حتى إستطاعت قوات الأمن من إخراج الجماهير وإعادة النظام إلى الملعب .. وماهى إلا دقائق قليلة ،أطلق بعدها الحكم صافرة النهاية معلنا عن فوز مصر على السودان والتتويج باللقب الأفريقي للمرة الثانية على التوالي بعد معاناة وضغوطات قبل وأثناء المباراة، لينطلق لاعبى المنتخب فى كل مكان فرحين بالفوز الصعب وحاملين عصام بهيج عريس المباراة على الأعناق بعد أن أنصفه القدر وجعله الله سببا فى فرحة المصريين بتسجيله هدفى المباراة والتتويج باللقب.
• ماذا قال المشير عن عصام بهيج عند استلام كأس البطولة
بعد إنتهاء الاحتفالات فى الملعب تراصو اللاعبين واتجهوا ناحية المنصة لإستلام كأس الأمم الأفريقية من المشير عامر ..
وعند إستلام كأس البطولة من المشير ، جاء دور عصام ليسلم عليه .. احتفظ المشير بيد عصام فترة طويلة وهو يضغط ويشد عليها فرحا وهو يقدمه الى السفير السودانى قائلا فى فخر وسعادة : النقيب “عصام بهيج” فى قواتنا المسلحة ومحرز الهدف الأخير .. حيث كما أشرنا أن عصام بهيج نقيبا فى القوات المسلحة وقتها
ليرتفع بعدها علم مصر على السارية عاليا والسلام الجمهوري يعزف لحن الإنتصار، بينما كانت الدموع تنهمر من الجميع فى مشهد لن ينسي فى تاريخ الكرة المصرية .
• قصة اللقطة التاريخية لهدف بهيج التي حولت مصور مغمور إلى مشهور وسر الإهداء المتواجد عليها
لم تنتهي فصول القصة عند هذا الحد ، بل كانت هناك قصة أخرى ، تنسج خيوطها بالتوازى مع أحداث المباراة لاتقل أهمية عنها .. قصة نتج عنها الصورة التاريخية المتواجدة على غلاف الموضوع .. ولمعرفة تفاصيل قصة هذه الصورة والتى تعتبر من النوادر وماتسببت فيه بعد ذلك ، عليك قراءة السطور التالية، صديقى العزيز لأنها فعلا تستحق .
قصة صورة تسجيل عصام بهيج عريس المباراة للهدف الثانى تعتبر واحدة من النوادر الرياضية .. وذلك لما حدث للمصور “طاهر حفنى” الذى إلتقط هذه الصورة .. حيث كان “طاهر” مصورا حديث التعيين فى جريدة الجمهورية حينئذ .. ولم يكن عنده فكرة عن كرة القدم .. وحمل المصور أفلامه والكاميرا وذهب للمباراة، وأخذ يقلد المصورين ويفعل ما يفعلون ..
وعندما إقتربت المباراة من نهایتها، ومع إزدياد ضغط المنتخب السودانى على مرمى “عادل هيكل” ،وندرة الهجمات على حارس مرمى المنتخب السودانى “سمير محمد على” ، ترك المصورون كاميراتهم خلف المرمى السودانى فى كسل ولا مبالاة بعد أن أصبحت المباراة فى إتجاه واحد .. ماعدا صديقنا المصور الحديث “طاهر حفنى” فقد ظل محتفظا بالكاميرا متأهبا يصور أى شئ وكل شئ بما فيها لقطة هدف عصام بهيج .. ليصبح هو المصور الوحيد فى مصر كلها الذى إلتقط صورة الهدف .. وظهرت جريدة الجمهورية وصورة الهدف فى صفحتها الأولى دونا عن الأهرام والأخبار .. والصحف الأخرى .
وقد اتصل الأستاذ “إبراهيم الوردانى” من الجمهورية بعد ذلك بعصام بهيج ليخبره أن طاهر المصور يريد أن يقابله ليشكره ، وذلك بعد أن صرفت له الجريدة مكافأة كبيرة على إنفراده بتلك اللقطة الرائعة .
قصة الإهداء ..
لودققت فى الصورة عزيزي القاريء ستجد كلام مكتوب أعلاها من جهة اليمين ..
هذا الكلام بخط يد الفنان الكبير شكرى سرحان شخصيا ، بعد أن ط طلب من المصور “طاهر حفنى” تكبير نفس الصورة وإعطائها له ليكتب عليها هذا الإهداء ليعطيها لعصام بهيج كاهدية منه تقديرا لما فعله فى المباراة، وهى الصورة الوحيدة التى كان يحتفظ بها عصام بهيج فى منزله وعليها إهداء الفنان شكرى سرحان الدافئ .
هذا وقد قام عصام بهيج بعدها بتوثيق قصة الهدف التاريخى على ثلاث صور مجمعه كما هو موضح أدناه
وهنا تكون قد انتهت قصة واحدة من المباريات التاريخية لمصر فى بطولات كأس الأمم الأفريقية ، حملت كواليسها وتفاصيلها وجنابتها أحداث شيقة ومثيرة للجدل تنشر للمرة الأولى فقط وحصريا على كورابيديا ..
..