سيد العاطفي ..
الفيلم الذى قاطعه الزملكاوية
لطالما كانت السينما مرآة للمجتمع، تعكس أفراحه وأتراحه، اهتماماته وصراعاته. وفي مصر، حيث تتشابك خيوط الحياة اليومية بشغف لا مثيل له برياضة كرة القدم، لم يكن غريباً أن تجد الساحرة المستديرة طريقها إلى الشاشة الفضية. عبر عقود من الزمن، قدمت السينما المصرية أعمالاً تناولت عالم كرة القدم من زوايا مختلفة، استلهمت من نجومها اللامعين، غاصت في حماس جماهيرها المتيمة، وحاولت أحياناً التقاط نبض التنافس المحموم بين قطبيها الأشهر، الأهلي والزمالك. بعض هذه الأعمال مرت مرور الكرام، بينما حفر البعض الآخر اسمه في ذاكرة المشاهدين، ليس فقط لقصته أو نجومه، بل لما أثاره من جدل ونقاش تجاوز حدود دور العرض ليصل إلى المقاهي، الشوارع، وحتى مدرجات الملاعب نفسها.
السينما المصرية وصدى الهتاف في المدرجات
عبر عقود من الزمن، قدمت السينما المصرية أعمالاً تناولت عالم كرة القدم من زوايا مختلفة، استلهمت من نجومها اللامعين، غاصت في حماس جماهيرها المتيمة، وحاولت أحياناً التقاط نبض التنافس المحموم بين قطبيها الأشهر، الأهلي والزمالك. بعض هذه الأعمال مرت مرور الكرام، بينما حفر البعض الآخر اسمه في ذاكرة المشاهدين، ليس فقط لقصته أو نجومه، بل لما أثاره من جدل ونقاش تجاوز حدود دور العرض ليصل إلى المقاهي، الشوارع، وحتى مدرجات الملاعب نفسها.
وفي هذا السياق، يبرز فيلم “سيد العاطفي” (إنتاج عام 2005) كحالة فريدة ومثال صارخ على هذا التداخل العميق بين الفن السابع وشغف كرة القدم المصري. الفيلم الذي جمع بين النجمة الجماهيرية المحبوبة عبلة كامل والمطرب الشاب الصاعد آنذاك تامر حسني، لم يحقق نجاحاً تجارياً لافتاً فحسب، بل أشعل فتيل جدل واسع النطاق، ووضع نفسه في قلب عاصفة من المشاعر المتضاربة، خاصة بين جماهير الناديين الكبيرين. لم يكن مجرد فيلم كوميدي اجتماعي، بل تحول إلى ظاهرة ثقافية ورياضية، كاشفاً عن عمق الانتماء والتعصب الكروي، ومجسداً كيف يمكن لعمل فني أن يصبح جزءاً من تاريخ المنافسة الشرسة بين الأهلي والزمالك. يستعرض هذا المقال قصة فيلم “سيد العاطفي”، ويفكك خيوط الجدل الذي أحاط به، محللاً أسباب غضب الجماهير الزملكاوية، ودعوات المقاطعة، وتأثيره على حالة الاستقطاب الكروي في مصر، مقدماً رؤية شاملة لهذه الظاهرة التي انتقل فيها الصراع من المستطيل الأخضر إلى شاشة السينما.
“سيد العاطفي”: قصة عشق أهلاوية تثير حفيظة الزملكاوية
تدور أحداث فيلم “سيد العاطفي” حول شخصية “أم سيد”، التي تجسدها ببراعة الفنانة عبلة كامل، وهي أم مصرية بسيطة، لكنها تحمل في قلبها عشقاً جارفاً للنادي الأهلي يصل إلى حد الهوس. هذا العشق ليس مجرد متابعة عابرة للمباريات، بل هو جزء أساسي من هويتها وحياتها اليومية، وهو ما ورثته لابنها “سيد” (تامر حسني). الفيلم يرسم صورة كاريكاتورية، وإن كانت مستوحاة من الواقع، لهذا الانتماء المطلق. “أم سيد” لا تفوت مباراة لفريقها المفضل، تتواجد دائماً في قلب المدرجات بين الجماهير الحمراء، تهتف بحماس، وتعيش أدق تفاصيل اللعبة بكل جوارحها. يصل هذا العشق ذروته في مشهد لا يُنسى، حيث تقرر “أم سيد” أن تقيم حفل زفاف ابنها “سيد” داخل مدرجات ملعب النادي الأهلي، محاطين بالهتافات والأعلام الحمراء، في تجسيد سينمائي لفكرة أن الأهلي ليس مجرد نادٍ رياضي، بل هو حياة بأكملها بالنسبة لعشاقه.
هذه القصة، التي تبدو في ظاهرها احتفاءً بسيطاً بالانتماء الكروي، سرعان ما تحولت إلى مادة خصبة للجدل، خاصة في الأوساط الزملكاوية. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالتركيز على حب الأهلي، بل بما اعتبره جمهور الزمالك إهانة مباشرة وتعمداً للسخرية من ناديهم وتاريخهم الحديث في مواجهة الغريم التقليدي.
شرارة الجدل: “خدوا ستة رايح.. خدوا أربعة جاي”
كانت نقطة الانفجار الرئيسية التي أشعلت غضب جماهير الزمالك هي جملة شهيرة وردت على لسان “أم سيد” في الفيلم وضمن حملته الدعائية: “خدوا ستة رايح.. خدوا أربعة جاي”. هذه الجملة لم تكن مجرد حوار عابر، بل كانت إشارة واضحة ومباشرة إلى هزيمتين ثقيلتين ومؤلمتين تعرض لهما نادي الزمالك أمام النادي الأهلي في فترة زمنية متقاربة نسبياً؛ الأولى بنتيجة 6-1 في مايو 2002، والثانية بنتيجة 4-2 في موسم 2004-2005. هاتان النتيجتان تركتا جرحاً عميقاً في نفوس مشجعي الزمالك، واعتبرتا من اللحظات الصعبة في تاريخ مواجهات القمة.
رأى الزملكاوية في استخدام هذه الجملة، وبهذا الشكل الصريح والمباشر في فيلم سينمائي جماهيري، نوعاً من الشماتة والاستفزاز المتعمد، ومحاولة “لتوثيق حالة الانكسار المهينة” لناديهم أمام الأهلي، على حد تعبير البعض. لم يعد الفيلم في نظرهم مجرد عمل كوميدي، بل تحول إلى أداة لتأجيج مشاعر الغضب والإحباط لدى جمهور القلعة البيضاء، واللعب على أوتار حساسة تتعلق بكبرياء النادي وكرامته في مواجهة غريمه الأزلي.
اتهامات بالتحيز والانتماءات الأهلوية لصناع العمل
زاد من حدة الشعور بالاستهداف لدى جماهير الزمالك، الحديث المتزايد عن الانتماءات الكروية لصناع الفيلم الرئيسيين. فقد أشارت قطاعات واسعة من محبي وعشاق القميص الأبيض إلى أن المنتج محمد السبكي وعائلته معروفون بتشجيعهم القوي للنادي الأهلي. كما أن كاتب السيناريو والحوار، بلال فضل، معروف أيضاً بانتمائه الأهلاوي الواضح والصريح. وحتى المخرج، علي رجب، ابن مدينة الإسكندرية، قيل إنه من محبي القلعة الحمراء منذ الصغر.
هذه الانتماءات المعلنة أو المتصورة، عززت لدى الزملكاوية قناعة بأن الفيلم لم يكن مجرد صدفة، بل هو عمل يحمل “الكثير من مشاعر الكراهية لنادي الزمالك”، وأن هناك نية مبيته للانحياز للأهلي على حساب إذلال الزمالك وجماهيره. أصبح الفيلم في نظرهم ليس مجرد عمل فني، بل رسالة موجهة من معسكر الأهلي إلى معسكر الزمالك، مستغلاً منصة السينما ذات التأثير الجماهيري الواسع.
دعوات المقاطعة وردود الفعل: الصراع ينتقل إلى شاشات السينما
مع انطلاق الحملة الدعائية للفيلم وظهور جملة “ستة رايح.. أربعة جاي” بشكل بارز، بدأت ردود الفعل الغاضبة من الجانب الزملكاوي تتصاعد. تحرك رئيس نادي الزمالك آنذاك، مرتضى منصور، وطالب المنتج محمد السبكي بحذف هذه الجملة ليس فقط من الإعلانات التلفزيونية والبرومو الترويجي، بل ومن الفيلم نفسه، معتبراً أنها تمثل إساءة بالغة لنادي الزمالك. استجاب السبكي جزئياً وقام بحذف الجملة من الإعلانات، لكنه أبقاها ضمن سياق أحداث الفيلم.
وفي تصريحات إعلامية له رداً على هذا الجدل، دافع السبكي عن موقفه قائلاً ما معناه: “هذا تاريخ حدث بالفعل. هل لم يهزم الأهلي الزمالك 6-1 و 4-2؟ هل ادعينا نتيجة لم تحدث أو رسمناها من وحي خيالنا؟”. هذا الرد زاد من حدة النقاش، حيث اعتبره البعض إصراراً على الموقف وتأكيداً على النية المبيتة.
مع بدء عرض الفيلم في دور السينما، تحولت الدعوات إلى حملات منظمة لمقاطعة الفيلم بين جماهير الزمالك. انتشرت الدعوات عبر المنتديات الإلكترونية والرسائل النصية وفي التجمعات، لحث عشاق القلعة البيضاء على عدم مشاهدة الفيلم الذي اعتبروه مهيناً ومستفزاً.
في المقابل، وكرد فعل طبيعي في ظل حالة الاستقطاب الشديد، توافدت جماهير النادي الأهلي بكثافة لمشاهدة الفيلم، ليس فقط من باب الترفيه، بل ربما أيضاً من باب دعم الفيلم “الأهلاوي” في مواجهة حملة المقاطعة الزملكاوية، ومحاولة إنجاحه تجارياً. الطريف في الأمر، وكما ذكرت بعض التقارير، أن بعض صالات العرض شهدت تفاعلاً حماسياً من الجمهور الأهلاوي، حيث كانوا يرددون الهتاف الشهير “خدوا ستة رايح.. خدوا أربعة جاي” مع بطلة الفيلم عبلة كامل أثناء المشهد الذي تردده فيه. هذا التفاعل نقل الهتاف من كونه مجرد جملة في فيلم، ليصبح نشيداً أهلاوياً يُردد في المدرجات، مما عمق الإحساس بأن الصراع بين القطبين قد تجاوز بالفعل حدود الملعب ليصل إلى شاشة السينما.
الفيلم كأداة لإثارة الفتنة والتعصب: نقاش حول دور السينما
لم يقتصر الجدل على الجماهير فقط، بل امتد إلى الأقلام الصحفية والنقاد. خرجت بعض الكتابات التي حذرت من أن فيلم “سيد العاطفي” يتجاوز حدود الكوميديا والانتماء البريء ليصبح رسالة سلبية تهدف إلى “إثارة وإشعال نار الفتنة والتعصب” بين جماهير الناديين الكبيرين. رأى هؤلاء أن الفيلم، بتركيزه على نتائج تاريخية مؤلمة لطرف وتقديمها بشكل ساخر، يساهم في تأجيج مشاعر الكراهية والعداء، ويحرض الجماهير على بعضها البعض، ويفتح الباب أمام تدني لغة الحوار والهتافات في المدرجات.
طُرح السؤال الأهم: ما هي الرسالة التي أراد صناع الفيلم إيصالها؟ وهل يمكن تبرير استخدام السخرية من هزائم فريق منافس في عمل فني جماهيري بهذا الشكل؟ وهل تقع على عاتق صناع السينما مسؤولية أخلاقية واجتماعية لتجنب إثارة النعرات والانقسامات، خاصة في موضوع حساس وشعبي مثل كرة القدم؟
هذا الجدل دفع بعض رجال الأعمال المحسوبين على نادي الزمالك إلى التفكير جدياً في إنتاج فيلم مضاد، يكون بمثابة “رد الصفعة” للأهلاوية. فيلم يمجد تاريخ الزمالك وانتصاراته، وربما يسخر بدوره من الأهلي. وتم طرح فكرة التذكير بانتصارات تاريخية للزمالك على الأهلي بنتائج كبيرة، مثل الفوز 6-0 مرتين في أربعينيات القرن الماضي، وهي نتائج قد لا يعرفها الجيل الحالي.
إلا أن المنتج السينمائي المعروف بانتمائه الشديد لنادي الزمالك، الدكتور مدحت العدل، ورغم إبداء استعداده المبدئي لدعم مثل هذا المشروع، كان له رأي أكثر واقعية. فقد أشار إلى أن إنتاج فيلم يمجد الزمالك ويتحدى الأهلي يتطلب أولاً أن يستعيد النادي الأبيض هيبته وقوته على أرض الملعب، وأن يحقق انتصارات وبطولات تكسر شوكة منافسه. فبدون هذا النجاح الرياضي الفعلي، قد يبدو الفيلم مجرد رد فعل يفتقر إلى المصداقية والتأثير الحقيقي عند عرضه.
أصداء في الإعلام: أصوات الجماهير بين الدفاع والهجوم
لم تغفل القنوات الفضائية والبرامج الحوارية عن هذه الأزمة التي أشعلها الفيلم. تم استضافة مشجعين من كلا الناديين لتبادل وجهات النظر. دافع المشجعون الأهلوية عن الفيلم، حيث قال أحدهم إن الفيلم لا يتعمد إهانة الزملكاوية، وإن هناك قلة منهم أساءت تفسير بعض المشاهد والهتافات. وأضاف أن هتاف “خدوا ستة رايح.. خدوا أربعة جاي” هو هتاف أهلاوي قد ينطبق على أندية أخرى هزمت بنتائج كبيرة، فلماذا يفترض الزملكاوية أنهم المقصودون حصراً؟
مشجع أهلاوي آخر استشهد بفيلم “غريب في بيتي” (إنتاج 1982) للفنان الراحل نور الشريف، والذي لعب فيه دور لاعب كرة قادم من الأقاليم انضم للزمالك. وفي أحد مشاهد الفيلم، يتألق هذا اللاعب في مباراة أمام الأهلي ويراوغ الفريق بأكمله ويسجل ستة أهداف بمفرده. وتساءل المشجع: “لم نسمع وقتها أن النادي الأهلي أو جمهوره احتجوا أو غضبوا من هذا المشهد الذي أظهر فريقهم بهذا الضعف!”. (مع ملاحظة أن هذا المشهد وإن أظهر تفوقاً فردياً ساحقاً، إلا أنه كان في سياق خيالي تماماً ولم يستند لهزيمة حقيقية ومؤلمة بنفس الطريقة التي فعلها “سيد العاطفي”).
في المقابل، تمسك مشجعو نادي الزمالك بموقفهم، مؤكدين أن الفيلم “مثير للفتنة” ويحرض على التعصب والكراهية، وأنه “دعوة مفتوحة لتدني الهتافات” بين الجمهورين. وأصروا على أن الفيلم لم يكن عادلاً مع ناديهم، وجاء لاستفزاز مشاعرهم والضغط على جراحهم “دون مبرر أو أسباب منطقية”، متسائلين عن الهدف الحقيقي من صناعة أفلام بهذا الشكل، وعن الرسالة السلبية التي تبثها في المجتمع.
وفي الختام … عندما تتجاوز السينما حدود الشاشة
يبقى فيلم “سيد العاطفي” علامة فارقة في تاريخ العلاقة الملتبسة بين السينما وكرة القدم في مصر. لقد تجاوز الفيلم كونه مجرد عمل ترفيهي ليصبح جزءاً من السجال الدائر والمستمر بين قطبي الكرة المصرية. نجح الفيلم تجارياً، ورسخ مكانة نجميه عبلة كامل وتامر حسني، لكنه في الوقت ذاته ألقى بظلال كثيفة على مشهد التعصب الكروي، وكشف عن مدى حساسية الجماهير تجاه كل ما يمس كبرياء ناديها، خاصة في سياق الهزائم أمام الغريم التقليدي.
إن قضية “سيد العاطفي” تطرح أسئلة جوهرية حول حدود الحرية الفنية ومسؤولية المبدع، وحول دور السينما في معالجة الظواهر الاجتماعية الشائكة كالانتماء الكروي. هل يحق للفن أن يستخدم السخرية اللاذعة من طرف لصالح طرف آخر في صراع رياضي محموم؟ أم أن عليه أن يسمو فوق هذه الصراعات، أو يعالجها بحيادية وموضوعية أكبر؟
لقد أثبت “سيد العاطفي” أن فيلماً واحداً يمكن أن يحرك مشاعر الملايين، وأن جملة حوارية واحدة يمكن أن تتحول إلى هتاف يهز المدرجات، وأن الشاشة الفضية يمكن أن تصبح ساحة جديدة للصراع بين الأهلي والزمالك. ويبقى الدرس الأهم هو التأكيد على أن الشغف بكرة القدم، مهما بلغ، يجب أن يبقى في إطار الروح الرياضية والمنافسة الشريفة، وأن الفن، بقوته وتأثيره، يجب أن يسعى لتعزيز القيم الإيجابية والتسامح، لا لتأجيج نيران التعصب والانقسام. لقد كان “سيد العاطفي” فيلماً عن العشق الكروي، لكنه أصبح أيضاً فيلماً عن الجدل الكروي، ورمزاً لقدرة السينما على اختراق نسيج المجتمع والتفاعل مع أعمق مشاعره وانقساماته.
طالع أيضا علي كورابيديا ..
- علي خليل .. فارس الأخلاق الزملكاوية
- حكاية “الشيخ” أسامة حسني
- محمود الخطيب .. الوجه الآخر
- سمير الزيني .. المشجع المحلاوي الذي حظي بمقابلة السلطان قابوس
- طوابع البريد .. تخلد ذكرى الأحداث الرياضية
2 تعليقات
تعقيبات: حكاية "الشيخ" أسامة حسني | كورابيديا | koraapedia
تعقيبات: سمير الزيني .. المشجع المحلاوي الذي حظي بمقابلة السلطان قابوس | كورابيديا | koraapedia